top of page

ليالي الشوق في أوسلو



في ليلة من الليالي الباردة خلال اليومين اللذين قضيناهما في استوكهولم ونحن في طريقنا إلى أوسلو، خرجنا ونفر من رفاق النخبة بعد الثامنة ليلاً وقد «قرصنا الجوع» بحثاً عن مطعم أو كافتيريا، ثم تنازلت رغبتنا إلى العثور على بقالة ولو صغيرة نشتري منها خبزاً أو بسكويتاً نسد به جوعنا، وكدنا نبلغ اليأس، بل بلغناه لولا أنه طرأت على البال فكرةٌ، وهي الاستعانة بسيارة أجرة لتوصلنا إلى الأماكن التي «تسهر الليل»، ومازالت أبوابها مشرَّعة للزبائن، وبالفعل نجحت الفكرة، وحصلنا على شيء من الطعام والشراب الذي سد جوعنا في ليلة باردة.

تلك الليلة، ونحن نعلم أن أوروبا عموماً تفتح أبواب أسواقها ومحلاتها التجارية عند الساعة العاشرة صباحاً وتغلق أبوابها عند السادسة مساءً بما في ذلك المطاعم والبقالات، وتصبح مدنها مسكونة بالوحشة فلا تجد إلا قليلين اضطروا إلى الخروج، جميعهم تهيأ لهذا الوضع بعدم السهر والوجود في البيوت في وقت مبكر، تصورت الوضع عندنا ونحن على وشك تطبيق نظام إغلاق الأسواق والمحلات التجارية قبل التاسعة مساءً، وسبق لي أن تطرقت إلى هذا الموضوع في مقال سابق، أوضحت فيه الإيجابيات والسلبيات. معظم السياح في المدن الأوروبية يعانون من بعض الأمور غير المريحة لهم سواءً في أسواقها أو فنادقها، ومنها انعدام الحياة تماماً فيها وخلو الشوارع من المارة وإغلاق المحلات، وفي الفنادق يسود هدوء وسكون موحش كل مرافقها بما في ذلك طلبات الغرف mooR ecivreS» بعد التاسعة مساءً، ما عدا ملاهي السهر والبارات، وكذلك الأمر مع المناطق المعروفة بسهرها في المدن، والمعروف مرتادوها.

سائق «التاكسي» الذي أوصلنا في تلك الليلة، «في اللحظات الأخيرة» قبل إغلاق البقالة، كان مغربياً مسلماً، عمل في المملكة فترة طويلة قبل أن يهاجر إلى السويد ويستقر فيها، وأصر بعد إعادتنا إلى الفندق على ألا يأخذ منا «ولا نصف كورونا»، رغم أن أجور «التاكسي» باهظة ومكلفة، وذلك وفاءً منه لبلاد عاش فيها، ويعتبرها من أكثر البلدان أمناً واستقراراً، فهي قبلة المسلمين، وأرض الحرمين الشريفين. ما لاحظته ولاحظه كثيرون غيري أن معظم سائقي سيارات الأجرة والحافلات في استوكهولم وأوسلو هم من المهاجرين، وغالبيتهم كَوَّن حصيلة عمره التي كانت زاده في سفره، ورأسماله لرحلة هجرته، في مدن المملكة، التي تعد نقطة انطلاق المهاجرين الباحثين عن مستقبل أفضل في أوروبا وأمريكا، بل إنها تعد المركز الذي أهَّلهم وتدربوا وصقلوا فيه مهاراتهم في مهن ووظائف كثيرة، وهذا حماس مع الأسف يفتقده كثير من شبابنا النازحين من القرى والبادية إلى المدن بحثاً عن العمل والوظائف، فلا يقبل ولا يرضى غالبيتهم بالأعمال التي تحتاج إلى مهارة وتدريب وتُكسب الخبرة، بل نجدهم يبحثون عن الوظائف المكتبية الروتينية التي لا جهد ولا عناء فيها، ولا يطمحون في غيرها.

في شوارع استوكهولم وأوسلو المرصوفة بحجارة الحصى ما يدهشك حقاً هو نظافتها المثالية التي تنعم بها، وحتى في أزقة المدينة القديمة، ويمكنك المراهنة على عدم وجود أي مخلفات ولو كانت بسيطة في الأماكن العامة ومحطات القطار والمطارات. في تلك البلاد، في أوروبا عموماً، تجد عقيدة الإسلام نهجاً في المعاملة والعمل والسلوك رغم أن عدد المسلمين قليل وهم غير مؤثرين.

المدن الإسكندنافية مدن جاذبة تجمع بين حداثة الحضارة وسحر وأصالة التاريخ.


كانت المحطة الأولى في برنامج وفد النخبة في زيارتهم الأولى إلى مملكة النرويج، زيارة محافظة العاصمة أوسلو، ولقاء السيدة ماريانا بورجن عمدة المدينة. كان لقاءً ودياً، تحدثت فيه السيدة مارجن عن كثير من المشاريع التنموية في المحافظة لتطوير العاصمة، وبدا واضحاً أن كل الخطط والإجراءات مرتبطة بالمحافظة، وهو ما يؤكد أهمية دورها في العمل على تطوير وتنمية كافة المرافق، وأن كل القطاعات والمؤسسات التنموية والخدمية في مختلف المجالات ترتبط بالمحافظة، التي في يدها كل خيوط التطوير، ويأتي ارتباط المجلس البلدي بالمحافظة، حيث يشكل جزءاً مهماً في كيانها، ويقع قرب مكتب عمدة المدينة، دليلاً واضحاً على أهمية الدور الذي تقوم به المحافظة في إنجاز مختلف المشاريع، ورعاية المجلس البلدي، ودعم كل ما يتخذه من قرارات وتوصيات.

في غرفة الاجتماعات التي تُعقد فيها اجتماعات أعضاء المحافظة، والمجلس البلدي، وممثلي الأجهزة الحكومية المختلفة، استمعنا إلى شرح مفصَّل عن مشاريع التنمية الشاملة والمستدامة لمدينة أوسلو، قدمه مستشار المحافظة للشؤون السياسية السيد أندريس لارسون، وهي مشاريع ترمي إلى تحقيق عدد من الأهداف التي تعد وسماً لانطلاقة أوسلو المستقبل، وتشارك كل القطاعات في برامج التنمية الرئيسية، وهي برامج لا تستثني أي طبقة، أو جنس في المجتمع، وتشركهم جميعاً في برامج التنمية الشاملة التي لا تكون شاملة، لتحسين الأوضاع والمعيشة، إلا إذا كان كل فرد أو قطاع يسهم في برامج التنمية، والاستفادة من كل الفرص، وتبادل المنافع التنموية، والمشاركة في صنع القرار، وتعمل المحافظة على وضع استراتيجيات وخطط اقتصادية واجتماعية وتنموية لتعزيز مشاريع التنمية الشاملة المستدامة للحد من الفقر، والحماية الاجتماعية، وخلق فرص العمل، والتوسع الحضاري المستدام للمدينة، وفرض السياسات المالية التي تحفز النمو الشامل، وتعم مختلف القطاعات من حيث التطور السريع مع المحافظة على معدل خطط التنمية، وإنجازاتها بعيدة المدى من منطلق مبدأ الحفاظ على الديمقراطية في معالجة القضايا وإصدار القرارات.

أما فيما يخص النظام الانتخابي لأعضاء المجلس البلدي، وما لديه من سلطات وصلاحيات، فهو نظام فريد في نزاهته وسلاسة إجراءاته، كما أن تشكيلته الانتخابية ليست قائمة ومحددة بالأصوات التي يحصل عليها الأعضاء، وإنما تتحقق الفائدة الكبرى عند الحصول على أكبر عدد من المقاعد فيه لأعضاء الحزب الواحد، الذي يشكل قوة في المجلس، في اتخاذ القرارات ودعم تنفيذها بما يخدم المدينة وأفراد المجتمع.

كان لزاماً علينا بصفتنا نخبة من المثقفين والإعلاميين، الذين يمثلون قطاعات مستقلة في المجتمع المدني، ويعبرون عن أنفسهم، ويتطلعون إلى أخذ ما لدى النرويجيين من تجارب للاستفادة منها في بلادنا، أن ننقل لهم صورة حقيقية لما نعيشه من نمو وتطور، وما نتطلع إليه أيضاً في المستقبل من تحقيق حضارة وتنمية مستدامة بالجهد والعمل. حقاً لقد أدهشتنا تجربتهم التنموية ونظامهم الديمقراطي الفريد الذي لا يستثني أحداً، وقد رأينا ووقفنا على كثير من الإنجازات التي نتمنى استنساخها في بلادنا. لا أظنني سأتوقف عند أولى محطات رحلة الأشواق في أسلو، فلي في هذه الرحلة مواقف وتجارب مستفادة سأتناولها بتوسع تباعاً، لاحقاً بإذن الله.

Featured Posts
سوف تأتي المنشورات قريبًا
انتظرونا...
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page